إذا كنت تود الاطلاع على نسخة مختصرة من هذا التقرير في شكل مقطع فيديو، فعليك أن تضغط هنا.
واقفًا في شموخ قرب شاطئ بحر غزة في منطقة الجميزات، وأمامه عشرات من المتطوعين الفلسطينيين يشد من عضدهم، ويلهب حماستهم ويروي ظمأهم وتعطشهم للعمل الفدائي. إنه البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ الضابط المصري الثلاثيني، إنه القائد الملهم الذي أخذ بيد الفلسطينيين الذين يتحرقون شوقًا لدخول أراضيهم ليقتصوا ممن سلبها منهم وحرمهم من العيش في وطنهم. هو من أخرجهم من ظلمات السجون ليضيء لهم الطريق الذي قض مضاجع إسرائيل قرابة العامين، إنه طريق مقاومة المحتل بالكفاح المسلح.
ولد مصطفى حافظ بقرية زاوية البقلي مركز الشهداء بمحافظة المنوفية، في 25 ديسمبر عام 1920. حصل على الشهادة الابتدائية عام 1934، ثم التحق بمدرسة فؤاد الثانوية، وقد ظهرت روح الوطنية لديه في وقت مبكر؛ إذ اشترك في المظاهرات الضخمة التي كانت تخرج من مدرسة فؤاد الثانوية للتنديد بالاستعمار البريطاني على مصر.
بعدما حصل حافظ على البكالوريا (الثانوية العامة) في عام 1938 التحق بالكلية الحربية، وقد اشتهر خلال فترة دراسته بالكلية بأنه صاحب الأعصاب الفولاذية، كما أنه كان من المتفوقين البارزين في الكلية الحربية، وتخرج فيها عام 1940.
بعد أن تخرج حافظ في الكلية الحربية عُين ملازمًا بسلاح الفرسان في السابع من سبتمبر عام 1940، كما حصل على فرقة (طبوغرافيا) عام 1943، ثم حصل على فرقة (أسلحة صغيرة) عام 1945. ثم انتُدب لسلاح الحدود برتبة ملازم أول في يوليو 1948، ثم عُين حاكمًا لبلدة بيت جبريل حتى عام 1949، كما عُين حاكمًا لرفح، فاكتسب وقتها معرفة بالأوضاع في قطاع غزة.
في أكتوبر من عام 1952 انتدب لإدارة المخابرات (مكتب مخابرات فلسطين) وتولى قيادة مكتب غزة. ثم حصل على فرقة مدرعة في 13 أكتوبر 1955، وبعدها رُقي إلى رتبة رائد.
عُرف حافظ بسمعته الطيبة بين زملائه الذين أخذوا يتناقلون بإعجاب شديد قصة هروبه الجريء من أحد المعتقلات الصهيونية عام 1948، كما اشتهر في الجيش بأنه خبير بالبشر والسياسة، فضلًا عن كونه ضابطًا محترفًا. الأمر الذي أهله لقيادة العمل الفدائي ضد إسرائيل، بعدما قرر الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الثأر للجنود المصريين بعد الغارة الإسرائيلية الشهيرة في 28 فبراير 1955، التي ضربت مواقع للجيش المصري في قطاع غزة.
كانت هذه الغارة بالنسبة للرئيس عبدالناصر، نقطة تحول وجرس إنذار، خصوصًا وأن مؤثرات غارة غزة لم تقتصر على قطاع غزة، بل تعدته إلى مصر، باعتبار أن غالبية الضحايا من الجنود المصريين، مما زاد من آثار الغارة على الرأي العام المصري، بخاصة وأن عبدالناصر كان في زيارة لهؤلاء الجنود قبل الغارة بفترة قصيرة، وأكد لهم شخصيًا أنه ليس هناك خطر وقوع معركة.
من هنا قامت الحكومة المصرية بتدعيم مكتب حامية غزة بعشر كتائب من الحرس الوطني، وإيكال أمر تشكيل قوات الفدائيين إلى الضابط الشاب مصطفى حافظ، الذي قدم إلى قطاع غزة، برتبة صاغ (رائد)، وتولى مكتب مخابرات قطاع غزة. وقد بدأ حافظ بانتقاء عناصر مجموعته الوليدة، فكانت الأولوية للشباب الأكثر كفاءة ودراية بالمسالك إلى الأرض المحتلة.
قام حافظ بتشكيل الكتيبة 141 فدائيين، من العناصر الفلسطينية التي كان قد قام النظام المصري بإيداعها السجن، بتهمة التسلل إلى الوطن المحتل، فهذه العناصر مُلمِّة بطبيعة الأرض، ومتمرسة على الدخول إليها والخروج منها، إلى جانب قدرتها على الاشتباك مع الجنود الإسرائيليين. وبعد أن أخرجهم حافظ من السجن أخذ يحثهم على العودة إلى العمل الفدائي، ولكن هذه المرة تحت إشرافه هو شخصيًا قائلًا لهم:
إنني أريدكم أن تجتازوا خط الهدنة هذه المرة، وبأمر مني، ولكن بدل أن تُعرِّضوا أنفسكم وتذهبوا من أجل أغراض بسيطة، فإنني أريدكم أن تجتازوا خط الهدنة من أجل وطنكم وخدمته.
تكونت هذه الكتيبة من نحو 900 فدائي فلسطيني، توزعوا على شتى المدن والقرى الفلسطينية، وقد تخصص كل منهم بمنطقته عمومًا، وبمدينته وقريته الأصلية على وجه الخصوص، وتمكنت هذه الكتيبة من التغلغل إلى أعماق الأراضي المحتلة حتى وصلت إلى مشارف تل أبيب.
بدأ المتطوعون الشباب في التدفق إلى الكتيبة الفدائية الجديدة بقيادة حافظ، وأخذوا يتدربون على القتال تحت إمرته، وكان مكان التدريب في البداية بالقرب من شاطئ بحر غزة في منطقة الجميزات، وكان يبدأ من الفجر ويمتد حتى ساعات من الصباح الباكر. وبعد فترة قصيرة نُقل المتطوعين إلى معسكر الجيزة قرب القاهرة، بعد أن قام حافظ بالتنسيق مع الحاكم العام لقطاع غزة، وفي المعسكر الجديد تزود الفدائيون بعدد من الأسلحة اللازمة.
كان لحافظ تأثير قوي على الكتيبة؛ حيث وجد فيها حبًا فريدًا من نوعه من كل المتطوعين تجاهه، فكان لهم مثل الأب، وكانوا يبوحون له بمشاكلهم وأسرارهم الخاصة، فلُقِّب بأبو الفدائيين، فهو الذي يدربهم ويشد من أزرهم ويستمع إليهم ويسدي إليهم النصيحة دائمًا.
أما على مستوى العمل الفدائي، فكان حافظ يفتتح المعسكرات للفدائيين الفلسطينيين الواحد تلو الآخر؛ فبعد معسكر الجيزة، افتتح معسكرين آخرين في خان يونس ورفح، وأصبح عدد الفدائيين يقترب من الألف فدائي.
بدأت الكتيبة 141 في القيام بسلسلة من الأعمال الفدائية الناجحة التي كانت تحت إشراف وتوجيهات حافظ، وكانت هذه العمليات ذات تأثير كبير جدًا على إسرائيل، فقد جعلتها بحق لا يُغمض لها جفن، فلا أمان في البيت أو المستوطنة أو المعسكر، ولا حتى الملاجئ، وكانت معظم الصحف الإسرائيلية مشغولة بتغطية الأعمال الفدائية التي تقوم بها كتيبة حافظ.
كانت بداية هذه العمليات، في أغسطس 1955، بعملية شارك فيها عدد من رجال الحرس الوطني المصري، وبدأت بقيام مجموعة من الكتيبة برصد موقع إسرائيلي، غربي محطة السكة الحديد لقرية دير سنيد المحتلة، وتمكنت هذه المجموعة من تدمير سيارة عسكرية تقل عددًا من الضباط والجنود الإسرائيليين، ليموت كل من فيها عن بكرة أبيهم.
كما انطلقت عملية أخرى في خريف نفس العام؛ حيث قامت مجموعة بالتوجه نحو مستعمرة نيرعام الإسرائيلية التي أقيمت على جزء من أراضي قريتي بيت حانون ونجد الفلسطينيتين، وقامت هذه المجموعة بمهاجمة سيارة عسكرية إسرائيلية، ودمروا خزانات مياه هذه المستعمرة.
كان هذا غيض من فيض العمليات التي قامت بها الكتيبة تحت إشراف مصطفى حافظ، فقد أشارت تقارير المخابرات الإسرائيلية إلى أن الخلايا الفدائية الفلسطينية، التي أشرف عليها حافظ، كانت تتسلل يوميًا إلى داخل حدود إسرائيل، وتقوم بتنفيذ مهمتها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، في أبريل من عام 1956 تمكنت 200 خلية فدائية من الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية لتنفيذ عمليات فدائية خلف خطوط العدو.
وقد وصفت الجهات الإسرائيلية هذه العمليات بأنها كانت في غاية الخطورة، وأنها بلغت منذ أواخر عام 1955، وحتى بداية مارس 1956، نحو 180 هجومًا، وذلك بمتوسط هجومين لكل ليلة تقريبًا، ووصل عدد القتلى الإسرائيليين، بفعل تلك الكتيبة إلى 253 إسرائيليًا.
لقد بثت أعمال الكتيبة 141 الذعر والرعب في قلوب الإسرائيليين، حتى إنهم أدركوا أن هذه العمليات لن تتوقف إلا بالتخلص من مدبرها والمخطط لها مصطفى حافظ، الذي عُرف في ملفات الموساد الإسرائيلي باسم الرجل الظل، فقد كانت إسرائيل لا تعرف في البداية من هو قائد الكتيبة ومدبر هذه العمليات، التي وصفها أرئيل شارون في مذكراته بقوله:
إن الفلسطينيين المشهورين باسم الفدائيين، كانوا يزرعون الموت والدمار في جنوب البلاد.
هذا الذعر والهلع الذي سببته العمليات الفدائية للكتيبة جعل إسرائيل تبحث عمن وراء كل هذه المآسي التي حدثت لهم في وقت ليس بكثير، إلى أن عرفوا أن مهندس تلك العمليات والأب الروحي للكتيبة 141 هو مصطفى حافظ، فقررت على الفور التخلص منه عن طريق اغتياله.
بدأت الاستخبارات الإسرائيلية تجمع المعلومات عنه، أي معلومات؛ متى ينام، ومتى يستيقظ، وماذا يأكل؟ فكانوا يريدون أن يعرفوا عنه أدق التفاصيل حتى يجدوا الثغرة التي ستسمح لهم باغتياله.
جرت عدة محاولات للقضاء على حافظ على يد الوحدة 101 بقيادة أرئيل شارون، وكان من بين هذه المرات، عندما هاجمت مجموعة من هذه الوحدة منزل حافظ، إلا أنه لم يكن موجود بالمنزل، فقاموا بتفجير بوابة الفناء وجزء من المنزل، وقد باءت كل المحاولات التي تلت تلك المحاولة بالفشل.
لذلك تم تكليف الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) واستخبارات الأمن العام (الشاباك) بوضع وتنفيذ خطة مشتركة لاغتيال حافظ، ومن خلال معرفة الموساد الإسرائيلي أن حافظ يحب معرفة كل شيء وكل التفاصيل استغلوا تلك المعلومة لوضع خطة للقضاء عليه.
كشفت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية الخطة التي تم وضعها للتخلص من حافظ ونقلت عن مردخاي شارون، قائد الموساد الإسرائيلي سابقًا، قوله:
إن اغتيال مصطفى حافظ ضابط الاستخبارات المصرية الأسطوري في غزة، كان من أهم العمليات التي شارك في تنفيذها.
وأردف مردخاي:
إن أحد شيوخ القبائل في النقب يُدعى عامر الطلالقة كان عميلًا مزدوجًا، عمل لصالحنا كما عمل في نفس الوقت لصالح مصطفى حافظ والمخابرات المصرية. فقررنا أن نرسل من خلاله رسالة ملغومة إلى حافظ.
التقى وفد الموساد الإسرائيلي مع الطلالقة، وأوهموه بأنهم يريدون منه توصيل رسالة مهمة إلى قائد شرطة غزة، لطفي العكاوي. وأخبروه أن العكاوي يتعاون معهم بواسطة جهاز اتصال يعمل بالشفرة، ولأسباب أمنية ستتغير الشفرة، وستكون الشفرة الجديدة موجودة في كتاب ضمن طرد سيحمله الطلالقة ويضعه في مقبرة بقطاع غزة، وهناك سيأخذه العكاوي عن طريق عميل آخر، حتى يتمكن العكاوي من التواصل مع الإسرائيليين بالشفرة الجديدة.
قال مردخاي:
وضعنا الرسالة الملغومة داخل كتاب كفاحي الذي ألفه زعيم ألمانيا النازي أدولف هتلر. وعلمنا أن عامر الطلالقة لن يبلغ مصطفى حافظ بأمر الرسالة وحسب، بل وسيسلمها له يدًا بيد، وهذا ما حدث.
فقد كان الإسرائيليون متأكدون من أن الطلالقة سوف يسلم هذا الكتاب لحافظ لاعتقاده أنه حصل على سر مهم للغاية وينبغي أن يعرفه حافظ. وقد كان حافظ مسافرًا في ذلك الوقت، وعاد بعد أسبوعين إلى مكتبه في 11 يوليو 1956، وهناك قابل الطلالقة الذي أخذ يروى له ما عرفه عن العكاوي، لكن حافظ لم يصدق أبدًا أن يكون العكاوي متعاون مع الاحتلال، فقد كان من أقرب أصدقائه، ولكن الرسالة أثارت فضوله فقام بفتحها، وبمجرد أن فتحها حافظ حتى انفجرت في وجهه.
أُصيب حافظ إصابات بالغة جرّاء هذا الانفجار، فيما أصيب الطلالقة بالعمى وظل على قيد الحياة، وفي اليوم التالي 12 يوليو 1956 استشهد حافظ.
نعاه الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 26 يوليو 1956، ففي الخطاب الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس أمام عشرات الآلاف من المستمعين في ميدان المنشية بالإسكندرية، تكلم عن مصطفى حافظ قائلًا:
كان واجبه من أجلنا ومن أجل العرب. كرَّس نفسه لتدريب الجيش الفلسطيني، وإحيائه، هو واسم فلسطين. هل خسر أمام الاستعمار؟ هددهم فقتلوه، ولكن إذا ظنوا أن قتله يعني أنه لن يكون هناك من يحل محله، فسيجدون في مصر أن الكثيرين يتمسكون بمبادئه.
قُتل حافظ ولكن لا يزال تأثيره وسيرته العطرة تتناقل عبر الأجيال في مصر وفلسطين، فلا تزال بعض الشوارع والمدارس تحمل اسمه لتُخلِّد ذكراه، فهو لا يزال رمزًا لإلهام كل مقاوم أراد التحرر من قيود الاستعمار.